جلسه دو
قال صاحب العروة ( 1 ):
«مسألة 64:
إذا استلزم الذهاب إلى الحج تلف مال له في بلده معتد به لم يجب، وكذا إذا كان هناك مانع شرعي من استلزامه ترك واجب فوري سابق على حصول الاستطاعة أو لاحق مع كونه أهم من الحج كإنقاذ غريق أو حريق، وكذا إذا توقف على ارتكاب محرم كما إذا توقف على ركوب دابة غصبية أو المشي في الأرض المغصوبة »[1].
ووجه ما افاده ( 1 ) من عدم وجوب الحج فی هذه الموارد واضح. ضرورة ان الضرر غير القابل للتحمل عادة يمنع عن فعلية الوجوب، کما ان الواجب الفوري السابق علی حصول الاستطاعة مانع شرعي يمنع عن تحقق الاستطاعة وان الواجب الاهم ولو کان لا حقاً يمنع عن تحققها وانه تسقط فعلية وجوب الحج بقيام الواجب الاهم.
وايضاً لو استلزم الاتيان بالحج ارتکاب محرم لمنافاته لقصد القربة.
ثم ان السيد الحکيم اورد علی القول بسقوط وجوب الحج اذا استلزم الضرر:
بـ « أن أدلة وجوب الحج مخصصة لأدلة نفي الضرر، لاقتضائها وجوب صرف المال، نظير أدلة وجوب الإنفاق على الرحم، فلا مجال لإعمال أدلة نفي الضرر معها. إلا أن يقال: إن المقدار اللازم من تخصيص أدلة نفي الضرر».
ثم تأمل فيه بقوله ( 1 ):
«إن المقدار اللازم من تخصيص أدلة نفي الضرر بأدلة وجوب الحج خصوص المال المصروف في سبيل الحج، و فرض المسألة ليس من ذلك القبيل، فيبقى داخلًا تحت أدلة النفي. لكن هذا التخصيص غير ظاهر، و الإطلاق ينفيه. و كأنه لذلك قال في كشف اللثام: «و الحق أنه إن أدى تلف المال إلى الضرر في النفس أو البضع سقط لذلك، و إن كان الخوف على شيء قليل من المال. و إن لم يؤد إليه فلا أعرف للسقوط وجهاً، و إن خاف على كل ما يملكه، إذا لم نشترط الرجوع إلى كفاية...»[2]
وسياتی فی المسألة الآتية عدم تمامية القول بسقوط وجوب الحج بلزوم الضرر، وانه لابد من دخول المورد تحت عنوان اخر مثل الحرج.
واجاب عنه السيد الخوئی ( 1 ):
«... إن الاستطاعة الموجبة للحج و إن فسرت في الروايات بالزاد و الراحلة و صحّة البدن و تخلية السِّرب فحسب، و لكن دليل نفي الضرر حاكم على جميع الأدلّة إلّا في موارد خاصّة، و مقتضاه سقوط الواجب في موارد الضرر فيكون ممن يعذره اللَّه تعالى في الترك.
و دعوى أن الحجّ كالتكاليف المبنية على الضرر كالزكاة و الخمس و الجهاد و نحوها من الأحكام الضررية التي لا يجري فيها دليل نفي الضرر، بل أدلة هذه الأحكام مخصصة لأدلّة نفي الضرر فيجب تحمله، فاسدة بأن الحجّ و إن كان حكماً ضرريّاً في نفسه لكن بالنسبة إلى المقدار اللّازم ممّا يقتضيه طبع الحجّ، و أمّا الضرر الزائد عن ذلك الذي ليس من شؤون الحجّ و لا من مقتضيات طبعه فلا مخصص له و لا مانع من شمول دليل نفي الضرر له»[3].
وافاد السيد الاستاذ ( 1 ):
الأقوى التفصيل بين ما كان التالف مخلا بحاله و شأنه بحيث يستلزم الحرج، فلا يجب الحج. و بين ما لم يكن كذلك، فيجب و لو كان بمقدار معتد به.
و دعوى: انتفاء وجوب الحج مطلقا لأجل الضرر.
مدفوعة: بما تقدّم من تخصيص قاعدة نفي الضرر بما ورد من تعليل لزوم دفع المال لتحصيل ماء الوضوء من أنّ ما يحصله من الثواب اكثر ممّا يدفعه من المال[4].
ويمکن ان يقال:
ان ادلة نفی الضرر انما تکون حاکمة علی ادلة الاحکام فی الموارد التی لزم من رعاية الحکم ضرر علی المکلف فيرفع بها الوجوب کالحرمة. بلا فرق فی ذلک بين الاحکام المختلفة فی الموضوعات المتفاوتة مثل وجوب الحج و وجوب الصوم، بل انما يوجب رفع الحکم احتمال الضرر او خوف الضرر، وقد مرَّ ان سيرة العقلاء انما جرت علی الاجتناب عن محتمل الضرر، فان الحکم فی موارد خوف الضرر مرفوع واقعاً حتی لو انکشف الخلاف بعد ذلک، وقد مرَّ بحثه فی تخلية السرب وسقوط الوجوب بالخوف عن المانع فی طريق الحج.
ولکن هنا بحث و هو ان ادلة نفی الضرر انما تنصرف عن موارد الضرر التی يکون اقتضاء نفس الحکم كالضرر اللازم فی دفع الخمس او ما يلزم منه فی مثل الجهاد. وبالنسبة الی وجوب الحج، فان الاتيان به ملازم للضرر المالی بقدر مؤونة الحج، او غير المالی کالضرر البدنی الذی هو مقتضی طبيعة الحج کالوقوف فی العرفات فی ايام الحر وامثاله، فان بالنسبة الی هذه الموارد تکون ادلة نفی الحرج منصرفة عنها، بمعنی ان اطلاق ادلة نفی الضرر لا يشمل هذه الموارد بمقتضی الانصراف للتفاوت التبين فی مقام الصدق فی قوله: «لا ضرر ولا ضرار» بين الضرر الذی تقتضيه طبيعة الحکم والضرر الذی لا تقتضيه، وانما يرفع اليد عن اطلاق ادلة نفی الضرر بقدر ما يقتضيه الانصراف المذکور.
وعليه فما ذهب اليه صاحب العروة (قدسسره) من عدم وجوب الحج فی المقام فی کمال القوة، وکذا ما افاده السيد الخوئی ( 1 ) من الالتزام بعدم الوجوب فی مثل المقام الا ان ظاهر کلامه ( 1 ) ان ادلة الاحکام الضررية ای ما کان الضرر من مقتضيات طبيعته انما تخصيص اطلاق ادلة لا ضرر, فلا اطلاق لادلة الضرر, من هذه الجهة و اما الضرر الزائد عن ذلک الذی ليس من شؤون نفس الحکم و لا من مقتضيات طبعه فلا مخصص له ولا مانع من شمول دليل نفی الضرر له.
و انما يتفاوت بيانه ( 1 ) مع ما مرَّ منا من تقريب عدم شمول اطلاق لا ضرر, بانه ( 1 ) التزم بخروج هذه الموارد من باب التخصيص ای تخصيص ادلة نفی الضرر بادلة الاحکام المذکورة بالنسبة الی ما يقتضيه طبيعة الحکم.
ولکن قد مَرَّ منّا ان وجه الخروج الانصراف دون التخصيص، لان التخصيص فرع شمول الاطلاق اولاً ثم خروج هذه الموارد منه بدليل المخصص، ولکن الامر علی مسلکنا عدم شمول الاطلاق من اول الامر، ای ان ادلة «لا ضرر» لا يشمل باطلاقه هذه الموارد، ومع فرض الانصراف وتمامية لا تصل النوبة الی التخصيص.
والسيد الخوئی ( 1 ) وان التزم بالانصراف فی موارد التشکيك فی الصدق الا انه ( 1 ) لم يلتزم بالانصراف فی المقام وانما التزم بحسب ظاهر کلامه بان عدم شمول اطلاق ادلة «لا ضرر» بالنسبة الی هذه الموارد من باب تخصيص ادلة الاحکام المذکورة لها، ولعله لا يری التشکيك فی الصدق فی مثله.
[1] . العروة الوثقي (المحشي)، ج4،ص 417 - 418.
[2] . السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقي،ج10،ص 172.
[3] . موسوعه الامام الخوئي، ج 26، ص 172.
[4] . السيد محمد الروحاني، المرتقى إلى الفقه الأرقى، كتاب الحج؛ ج1، ص 145.