قال فی الکفایة :
وأما البراءة العقلية :
فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف ، لما مرت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلا بعدهما .
وأما البراءة النقلية :
فقضية إطلاق أدلتها وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها ، كما هو حالها في الشبهات الموضوعية ، إلا أنه استدل على اعتباره بالاجماع وبالعقل ، فإنه لا مجال لها بدونه ، حيث يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به .
ولا يخفى:
أن الاجماع هاهنا غير حاصل ، ونقله لوهنه بلا طائل ، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل ، لقوة احتمال أن يكون المستند للجل - لولا الكل - هو ما ذكر من حكم العقل ، وأن الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز ، إما لانحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، أو لعدم الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ، ولو لعدم الالتفات إليها.
فالأولى:
الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات والاخبار على وجوب التفقه والتعلم ، والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم ، بقوله تعالى كما في الخبر: ( هلا تعلمت ) فيقيد بها أخبار البراءة ، لقوة ظهورها في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم ، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالا ، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالا ، فافهم .
ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة ، فلا تغفل .»[1]
و توضیح ما افاده (قدس سره):
ان بالنسبة الی البرائة العقلیة فإن ادراك العقل بقبح العقاب انما یختص بما اذا احرز المکلف عدم البیان من ناحیة المولی، و معنی عدم البیان عدم البیان القابل للوصول بالنسبة الیه، و کونه فی معرض الوصول الیه بحسب الموازین العقلانیة و علیه فإنما یتم الادراك المذکور بعد الفحص فیما یتعارف وجود البیان فیه والیأس عن وجوده مع كون الفحص بالمقدار المتعارف واليأس الحاصل عنه علی حده ای بحسب متعارف الناس فلا یلزم احراز عدم البیان فی الواقع، بل عدم البیان القابل للوصول و المعرض للوصول هذا وأما بالنسبة الی البرائة النقلية.
فإن مقتضی ادلتها کحدیث الرفع اطلاق البرائة بالنسبة الی الفحص و عدمه فإن قوله (علیه السلام) ما لا یعلمون ، مطلق بالنسبة الی عدم العلم قبل الفحص او بعد الفحص.
الا انه استدل علی اعتبار الفحص فیها بوجهین :
الاول : الاجماع.
الثانی : العقل.
و افاد فی الاجماع بأنه لیس لنا فی المورد اجماع محصل و ذلك :
لأن فی مثل المسئلة التی یمکن الاستناد للزوم الفحص بدلیل العقل يشكل بتحصیل الاجماع لو لم یکن مستحیلا عادة، لأن غایة ما یمکن فی مقام تتبع الأقوال ، الظفر بالتزامهم بوجوب الفحص ، و هذا الالتزام يحتمل قویا استناده الی دلیل العقل ، و معه کیف یمکن تصویر کاشفیته عن نظر الشرع .
اما العقل :
فتقریبه : ان المکلف فی كل شریعة یعلم بوجود تکالیف الزامیة فیها علی نحو الإجمال، و العلم الإجمالي کالعلم التفصیلی منجز للتکلیف فیلزمه الخروج عن العهدة بالنسبة إليها، ولا يمكن ذلك الا بالفحص الموجب لانحلال العلم المذکور بالتکالیف المعلومة تفصيلا و الشك البدوی فی غیرها، و اجاب صاحب الکفایة (قدس سره) ، عنه بوجهین :
الاول: ان موضوع البحث فی المقام اجراء البرائة بعد الفحص المذکور فلا تکون الشبهة التی تکون مجری البرائة من الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالی ، و الکلام هنا یکون فیما اشتبه الأمر انحلال العلم الأجمالی المذکور ، و الظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، و حینئذ فإنما يشكر فی ثبوت حکم له بما انه من الشبهات البدویة دون المقرونة بعلم.
الثانی:
ان یکون یجری البرائة مورد عدم الابتلاء ، الا بما لا یکون بینهما علم بالتکلیف ، بأن یری عدم ابتلائه الا بالشبهات التی لم یحصل له العلم بوجود التکلیف بینها، و لو کان ما يراه مع عدم الابتلاء بغيرها تخيلا ناشئا من الغفلة وعدم الالتفات اليها .
وكان نظر صاحب الکفایة (قدس سره) ان العلم الإجمالی بالأحكام الالتزامیة لا یکون مانعا عن جریان البرائة فی الموردین، و نحن نتقبل النزاع فی مثلهما، والبحث يكون حينئذ في ان العقل هل يرى وجوب الفحص لمثلهما فی مقام جریان البرائة؟
ولذلك ای لأجل عدم مانعیة العلم الاجمالی المذکور عن جریان البرائة فی جميع الموارد، او احتیاجنا الی دلیل یوجب الفحص علی نحو مطلق و فی جمیع موارد البرائة نحتاج الی الاستدلال بوجوه اخری، و تعرض فی هذا المقام للاستدلال بالآیات و الاخبار.
و من الآیات قوله تعالی : (و لولا نفر من کل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فی الدین)[2]
وقوله تعالی : (فاسئلوا اهل الذکر ان کنتم لا تعلمون)[3]
اما الأخبار :
فنظير ما رواه الکلینی فی الکافی ، عن النبی صلى الله علیه و آله و سلم : طلب العلم فریضة علی کل مسلم ، الا ان الله یحب بغاة العلم.
و قوله: یا ایها الناس اعلمو ان كمال الدین طلب العلم و العمل به الا و ان طلب العلم اوجب علیکم من طلب المال.
مما دل علی وجوب تحصیل العلم.
و قرر الشیخ الوجه الثانی من الوجوه التی تدل علی وجوب اصل الفحص :
الادلة الدالة علی وجوب تحصیل العلم مثل آیتی النفر للتفقه و سؤال اهل الذکر.
والاخبار الدالة علی وجوب تحصیل العلم، و تحصیل الفقه و الذم علی ترك السؤال.
و قد مر فی کلام صاحب الکفایة " و الاخبار علی وجوب التفقه و التعلم ، و المؤاخذة علی ترك التعليم فی مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله تعالی کما فی الخبر (هلا تعلّمت).
و افاد بأن هذه الآیات و الأخبار تدل علی تقیید اخبار البرائة.
فیقید اطلاقها بلزوم الفحص .
ثم افاد (قدس سره) : انه یعتبر الفحص فی التخیير العقلی ایضا بعین ما ذکر فی البرائة.
و نظره قدس سره فی ذلك الی ان المراد بالبیان فی البرائة العقلیة هو الحجة الواصلة فعلا ، و فی التخیير العقلی و ان کانت الحجة الواصلة فعلا ، وفي التخيير العقلي وإن كانت الحجة واصلة بالتکلیف بحسبه ، الا ان الإجمال فی نوع التكليف فيه یقتضی الفحص لیحرز عدم البیان المبیّن الواصل ، و مع امکان التبیین بالفحص لا یتحقق الموضوع للتخیير .
ثم ان صاحب الکفایة (قدس سره) تعرض بعد تبیین شرائط الاصول العملیة الثلاثة و تحقیق لزوم الفحص فی الاخرین لأمرین:
الاول :
فی استحقاق العقوبة علی العمل بالبرائة قبل الفحص و افاد :
« أما التبعة ، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤديا إليها ، فإنها وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار ، إلا أنها منتهية إلى الاختيار ، وهو كاف في صحة العقوبة.
بل مجرد تركهما كاف في صحتها ، وإن لم يكن مؤديا إلى المخالفة ، مع احتماله ، لاجل التجري وعدم المبالاة بها ... »[4]
و نظره (قدس سره) الی ان استحقاق العقوبة انما یکون علی مخالفة الواقع اذا اتفقت، و هو وإن کان فی حال المخالفة غافلا عن الواقع و ترك الواقع ، و لا شبهة فی قبح تکلیف الغافل الا ان المخالفة للواقع انما وقعت منه مستندا الی تقصیره فی ترك الفحص و التعلم ، نظیر استناد ترك الواقع الى ترك بعض مقدماته الموجب لعدم اختياره حال ترك الواقع ، الا ان الامتناع بالاختیار لا ينافي الاختیار، و بما ان المخالفة منتهی الی الاختیار بترك التعلم فلا محذور فی استحقاق العقوبة علیها.
و ما افاده هنا موافق لما اختاره المشهور من استحقاق العقوبة علی مخالفة الواقع التی ادی الیها ترك التعلم و الفحص.
و رد به ما قیل :
بأن استحقاق العقوبة لیس علی مخالفة الواقع بل علی ترك التعلم، و أنه یجب التعلم نفیسا و العقاب یکون علی ترك الواجب ، کما افاده المحقق الاردبیلی و تبعه السید صاحب المدارك (قدس سره) .
و ما اختاره صاحب الکفایة فی المقام موافق لما افاده الشیخ (قدس سره) فی الرسائل قال (قدس سره) :
« أما العقاب :
فالمشهور : أنه على مخالفة الواقع لو اتفقت ، فإذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ، فإن لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير ، لا على ترك التعلم .»[5]
والترم المحقق النائینی (قدس سره) بأن العقاب انما یکون علی ترك التعلم المؤدی الی مخالفة الواقع لأن وجوب التعلم لیس نفیسا ، بل ان وجوبه طریقی ، و ان استحقاق العقاب لیس علی ترکه ، و لیس ایضا علی ترك الواقع لقبح العقاب علی المجهول بل یکون العقاب علی ترك التعلم المؤدی الی ترك الواقع.
و ان کان لا یمکن المساعدة علیه لعدم اقتضاء کل واحد منهما منفردا لاستحقاق العقاب .
ثم ان صاحب الکفاية تعرض لاشکال ربما یرد علی ما اختاره فی المقام من استحقاق العقوبة علی مخالفة الواقع فیما اذا کان ترك التعلم و الفحص مؤدیا الیها . بأنه يشکل الأمر بالنسبة الیه فی الواجب المشروط و کذا الواجب الموقت.
و اساس الاشکال هو ان فی الواجبات المشروطة ، سواء کانت مشروطة بالزمان کصلاة الجمعة و الصلوات الیومیة او مشروطة بغیره کالحج المشروط بالاستطاعة ، لا یمکن الالتزام باستحقاق العقوبة علی مخالفة الواقع التی موجبها ترك التعلم و الفحص ، لأن قبل تحقق الشرط فیها لا وجوب لیشمل لزوم الإتیان بمقدماتها و من جملتها التعلم، وبعد تحقق الشرط، فإنه لا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفتها بعد تحقق شرطها ، لأن المخالفة انما تحققت فی حال الغفلة، لغفلة المکلف عند الاستطاعة مثلا عن تکلیف الحج، و المفروض انه لا تکلیف فیها .
و هذا الاشکال أورده الشیخ (قدس سره) علی مقالة المشهور قال (قدس سره) فی الرسائل:
« أنه يلزم حينئذ عدم العقاب في التكاليف الموقتة التي لا تتنجز على المكلف إلا بعد دخول أوقاتها ، فإذا فرض غفلة المكلف عند الاستطاعة عن تكليف الحج ، والمفروض أن لا تكليف قبلها ، فلا سبب هنا لاستحقاق العقاب رأسا .»[6]
[1] . الآخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص375.
[2] . سورۀ التوبة، الآیة 122.
[3] . سورۀ النحل، الآیة 43.
[4] . الآخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص376.
[5] . الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص416.
[6] . الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص421.