بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هفده
لكن الشيخ (قدس سره) بعد ذلك ما مر من الاخبار باجمعها:
« و هذا المقدار لا يدلّ إلاّ على الفور من باب الاحتياط، فلو وثق بل علم بعدم حصول الترك منه في السنة المستقبلة فلا إثم.
و هذا غير الفوريّة بمعنى وجوب التعجيل بالذات، نظير ردّ الحقوق، ليترتّب عليه ما ذكروه من استحقاق العقاب بالتأخير و لو لم يترك. بل صرّح في الشرائع و غيره، بكون التأخير كبيرة موبقة. و كيف كان فإثبات وجوب التعجيل بذاته بالأخبار مشكل. و المتيقّن وجوب التعجيل احتياطا.
فلو أخّر و اتّفق أنّه حجّ في المستقبل فقد عصى بالتجرّي. و لا يبعد أن يكون التجرّي على مثل هذه المعصية أيضا كبيرة؛ لأنّ قبحه تابع لقبح أصل الفعل.
أمّا لو علم أو وثق بحصول الحجّ منه في المستقبل فلا معصية، بناء على ما ذكرنا، حتى لو اتّفق الموت؛ لعدم حصول التجرّي.
نعم، ظاهر الإجماعات المتقدّمة هو القول بالفوريّة الشرعيّة، مع احتمال تنزيل كلماتهم على ما ذكره المحقّق من الفوريّة العقليّة؛ لأنّ المآل عدم الوثوق.»[1]
ونظر الشيخ (قدس سره) الى ما نقله من المحقق:
«ان التأخير تعريض لنزول العقاب لو اتفق الموت، فتجب المبادرة صوناً للذمة عن الاشتغال.»
وافاد السيد الخوئي (قدس سره):
« لأن المكلف إذا كان واجدا للشرائط وتنجز التكليف عليه فلا بد له من تفريغ ذمته فورا ولا عذر له في التأخير مع احتمال الفوت فلا بد له من تفريغ الذمة.
وأما جواز التأخير في بعض الموقتات كتأخير الصلاة عن أول وقتها، أو تأخير القضاء وعدم وجوب المبادرة إليها فإنما هو لأجل حصول الاطمينان والوثوق غالبا ببقائه، والتمكن من اتيان الواجب في آخر الوقت حيث إن الوقت قصير يحصل الوثوق، والاطمينان غالبا للمكلفين ببقائهم بخلاف زمان الحج فإن الفصل طويل جدا وكيف يحصل الوثوق بالبقاء مع هذه الحوادث، والعوارض، والطوارئ ولذا نلتزم بالفورية في الصلاة أيضا فيما لو لم يطمئن بالتمكن من الاتيان بها في آخر الوقت، أو في أثنائه، ويجب عليه المبادرة إليها في أول الوقت.
وبالجملة يكفينا حكم العقل بوجوب المبادرة، وبعدم جواز تأخيره عن عام الاستطاعة.»[2]
هذا وما افاده السيد الخوئي (قدس سره) بيان تفصيلي لما نقله الشيخ عن المحقق (قدس سره) في المعتبر.
ويمكن ان يقال:
ان المدعى في كلام صاحب العروة (قدس سره) وغيره وجوب الحج فوراً، وعدم جواز تأخيره عن عام الاستطاعة، والظاهر ان مرادهم وجوب التعجيل شرعاً كما يظهر ذلك من استدلالهم بالاجماع والاخبار.
ولازمه ان التعجيل وهو لزوم المبادرة بالحج في العام الاول من الاستطاعة واجب نفسي ذا مصلحة مستقلة عن مصلحة الحج، او ان التأخير ذا مفسدة مستقلة عن ترك الحج، فمن ترك التعجيل، يعاقب وان اتى بالحج في العام الثاني او الثالث، واذا تركه ومات كان له عقابان.
وهذا امر لا يستفاد مما استدل به من الاخبار.
فان قوله (عليه السلام): «من مات ولم يحج حجة الاسلام، ولم يمنعه عن ذلك حاجة تجحفه ولا مرض لا يطيق فيه الحج ولا سلطان يمنعه فليمت يهودياً او نصرانياً».
في صحيحة ذريح المحاربي عن ابي عبدالله (عليه السلام). ناظر الى من ترك الحج ومات دون من أخّره وفعله في النهاية.
وكذا قوله (عليه السلام): «من مات و هو صحيح موسر فهو ممن قال الله عزوجل: {ونحشره يوم القيمة اعمى}». في موثقة ابان.
واما قوله (عليه السلام): «من قدر على ما يحج به، وجعل يدفع ذلك وليس له عنه شغل يعذره الله فيه حتى جاء الموت فقد ضيع شريعة من شرايع الاسلام» في موثقة علي بن ابي حمزة عن الصادق (عليه السلام).
وقوله (عليه السلام): «اذا قدر الرجل على ما يحج به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذر به فقد ترك شريعة من شرايع الاسلام» في صحيحة الحلبي عن ابي عبدالله (عليه السلام).
وان يشتمل على تمكن الرجل من الحج ودفعه من ناحيته الظاهر في التأخير الا ان ما يترتب عليه من ترك شريعة من شرايع الاسلام او ضياعها، انما يترتب على صورة موته في حال ترك الحج. كما صرح به في موثقة ابي حمزة بقوله حتى جاء الموت.
ومجيء الموت وان لم يصرح به في صحيحة الحلبي الا ان اسناد ترك شريعة من شرايع الاسلام اليه ظاهر في ذلك، لان من أخّر الحج من سنته ثم أتي به في العام المتأخر، ولم يمت في حالة كونه تارك الحج لم يترك شريعة من شرايع الاسلام.
وكذا الاخبار المشتملة على لفظة التسويف:
مثل قوله (عليه السلام): «وان كان سوّفه للتجارة فلا يسعه وان مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرايع الاسلام»، فهو كالاخبار السابقة ان اسناد ترك الشريعة اليه انما كان في صورة تركه للواجب، اي استمرار التسويف حتى مات في صحيحة معاوية بن عمار، واما قوله: فلا يسعه، ليس ظاهراً في عدم جواز التأخير بعنوانه.
لان في ذيل الرواية: «فإن كان دعاه قوم ان يحجوه فاستحيى فلم يفعل، فانه لا يسعه الا الخروج ولو على جمار اجدع ابتر... »[3]. حيث بين الامام (عليه السلام) ان من اخره وسلب عنه التمكن يلزمه الحج ولو باي مشقة. وظاهره انه لا يترتب عليه الا ذلك. فلا يترتب على التسويف فيها ما يدل على حرمته شرعاً او وجوب التعجيل كذلك وكذا قوله:
«قلت لابي عبدالله (عليه السلام) التاجر يسوف الحج؟ قال: ليس له عذر، فان مات فقد ترك شريعة من شرايع الاسلام» في معتبرة زيد الشحام.
وقوله: سألت ابا الحسن عن قول الله تعالى: «{ومن كان في هذه اعمى فهو في الاخرة أعمى} قال: نزلت فيمن سوّف الحج حجة الاسلام وعنده ما يحج به فقال: العام احج، العام احج حتى يموت قبل ان يحج». في ما رواه الصدوق عن محمد بن الفضيل.
فان ما يترتب في هذه الاخبار عن التسويف ترك المسوّف الحج اذا مات في تسويفه.
فان تمام الاهتمام في هذه الاخبار ان المستطيع اتى بالحج لان في تأخيره احتمال تركه. ابتلائه بترك شريعة من شرايع الدين.
وهنا لو فرض ان المكلف اطمئن ببقائه الى السنة الآتية، ولم يسلب عنه تمكنه من الاتيان بالحج، واتفق اتيانه في العام المتأخر، فانه لا يستفاد من هذه الاخبار باجمعها ما يدل على كونه معاقباً او انه بتأخيره ترك واجباً نفسياً او ذاتياً حسب تعبير الشيخ (قدس سره).
وحاصل ما يمكن الاستظهار عنها المبادرة لئلا يحصل الاخلال باتيانه من غير عذر.
ومما ذكرنا ظهر عدم تمامية ما افاده السيد الخوئي (قدس سره) في مقام الاستدلال بالاخبار:
« هذا مضافا إلى دلالة النصوص على الفورية ولزوم المبادرة.
منها - معتبرة أبي بصير قال: (سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عز وجل: ونحشره يوم القيامة أعمى قال: قلت: سبحان الله أعمى ؟ قال: نعم إن الله عز وجل أعماه عن طريق الحق)
وهي واضحة الدلالة على وجوب المبادرة، وعدم جواز التأخير ولو كان التأخير جائزا لم يكن وجه لعذابه، وعقابه.
ومنها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال: (قال الله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) قال: هذه لمن كان عنده مال، وصحة وإن كان سوقه للتجارة فلا يسعه، وإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرايع الاسلام إذا هو يجد ما يحج به)،
وغيرهما من سائر الروايات الدالة على الفورية.»[4]
وذلك لانه لا دلالة في الرواية الاولى على وجوب التعجيل والمبادرة باول الوجود ذاتاً، فضلاً عن وضوحها، والعذاب والعقاب الذي اوعد عليه في الرواية انما هو على ترك الحج بتصريحه (عليه السلام) من مات ولم يحج....
وكذلك الكلام في الرواية الثانية اي صحيحة معاوية بن عمار فانه (قدس سره) لم يتعرض لذيل الرواية، بقوله: «وان دعاه قوم ان يحجوه فاستحيى فلم يفعل فانه لا يسعه الا الخروج ولو على حمار اجدع ابتر»، فانه صريح في ان من تأخر الحج، وجب عليه ووقع في ذمته حتى اذا كان معسراً بعد ذلك، وانه لا يترتب عليه الا ذلك.
واما ما افاده فيما مر منه (قدس سره): ان عدم حصول الوثوق بالبقاء مع الحوادث والعوارض التي يمكن ان يبتلي بها كل انسان و تمنعه عن الاتيان بالحج يقتضي التعجيل احتياطاً كما هو المتيقن عند الشيخ (قدس سره) حيث افاد و المتيقن وجوب التعجيل احتياطاً.
وبناءً عليه، ان الاوامر الواردة في التعجيل والفورية، كالأوامر الواردة بالاحتياط في الشبهات فان لها الطريقة الى اهتمام المكلف بالتكليف، وعدم المسامحة فيه لئلا يبتلي بتركه. ومعه لا يترتب عليها اكثر مما يترتب على الواقع، وهو تفويت الفرض والتكليف المحتمل تحققه عند التأخير، فلا تقتضي الوجوب في التعجيل، وعدم الجواز في التأخير. ولا يستفاد منها اكثر من عدم معذورية المكلف في ترك الواجب.
وافاد (قدس سره)، بعد ذلك:
«وبالجملة. يكفينا حكم العقل بوجوب المبادرة وبعدم جواز تأخيره عن عام الاستطاعة.»
وقد افاد الشيخ (قدس سره)، في مقام بيان اقتضاء الاجماعات المتقدمة:
«نعم ظاهر الاجماعات المتقدمة هي القول بالفورية الشرعية مع احتمال تنزيل كلماتهم على ما ذكره المحقق من الفورية العقلية.»
ومراده (قدس سره) ما نقله عن المحقق في المعتبر:
«ان التأخير تعرض لنزول العقاب لو اتفق الموت، فتجب المبادرة صوناً للذمة عن الاشتغال.»
ويمكن ان يقال في تقريب هذا الوجه:
ان مع تأخير الحج عن عام وجوبه يحتمل الابتلاء بترك الواجب، لانه كما يحتمل بقاؤه الى العام المتأخر يحتمل موته، فلو مات يبتلي بعقوبة ترك الواجب، وعدم فراغ ذمته عن تكليف الحج وبقاء اشتغالها بموته فيلزمه التحفظ على غرض المولى بالتحفظ على هذا الاحتمال، وهو بيان للاحتياط في المقام الا ان الوجه له العقل، ولعل نظر السيد الخوئي (قدس سره) بكفاية حكم العقل بوجوب المبادرة الى ذلك.
ولكن حد الحكم العقلي في المقام. ادراك القوة العاقلة حسن الاهتمام المزبور بما انه اهتمام في طاعة المولى وحيث ان العقل مستقل بحسن الطاعة وقبح العصيان من باب استقلاله بحسن العدل و قبح الظلم، فانه لا شبهة في ان كل ما اتى به العبد في مقام اطاعة المولى والتحفظ على اغراضه ولو المحتملة منها حسن عنده. ولكن العقل في المقام لا يدرك في التكاليف الموسعة التي لها افراد بحسب الزمان، ان العبد اذا لم يات بالفرد الاول مع علمه او وثوقه بامكان إتيانه بالفرد الثاني او الافراد المتأخرة، قبح التأخير، ليستفاد منه الالزام، نعم التعجيل في هذا المقام عنده حسن، كما ان الاحتياط في مقام التحفظ على اغراض المولى في كل مورد محكوم عنه بالحسن، واما قبح ترك هذا التعجيل، وترك الاحتياط فليس مما يستدل به العقل.
تعم يتم تقريب المحقق في الواجبات المضيقة دون الموسعة، حيث ان العقل مستقبل بقبح تركه لانه ليست للمكلف الفرصة للاتيان بها في وقت آخر اذ ليس في الواجبات المضيقة افراد بحسب الزمان فهي كصوم شهر رمضان فيلزم المبادرة على اول الوجود، اذا امكن تصوير البداية فيه.
[1] . الشیخ الانصاری، کتاب الحج، ج ١، ص 10.
[2] . السيد الخوئي، كتاب الحج، ج1، ص17-18.
[3] . وسائل الشيعة (آل البيت)، ج11، الباب 10 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، ص40، الحديث 14187/3.
[4] . السيد الخوئي، كتاب الحج، ج1، ص18.