بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه شصت و دو
ثم افاد (قدس سره) في مقام توضيح ما قرره في المراد من الموصول والمرفوع بالحديث:
«وتوضيح ذلك: هو أن أدلة الأحكام لما كانت قاصرة لأن تتكفل بيان وجود الأحكام في زمان الشك فيها - كما أن نفس الجعل والتشريع الأول للأحكام لا يمكن أن يتكفل لحال الشك فيها - فلابد من جعل ثانوي يكون هو المتكفل لبيان صورة الشك في الحكم من ثبوته وعدم ثبوته، فيكون هذا الجعل الثانوي متمما للجعل الأولى ليس له ملاك يخصه، نظير ما دل على اعتبار قصد التقرب في العبادات، حيث إن الأمر الأولى لا يمكن أن يتكفل ببيان اعتبار ذلك، بل لابد من جعل ثانوي يتكفل ببيان ذلك ويكون من متممات الجعل الأولى.
وقد تقدم في بعض المباحث السابقة: أنه في كثير من الموارد نحتاج إلى متمم الجعل بجعل ثانوي.
والحكم الذي يتكفله الجعل الثانوي يختلف، فقد يكون حكما واقعيا بإضافة قيد في المأمور به الواقعي، مثل ما دل على اعتبار قصد التقرب، ومثل ما دل على اعتبار غسل المستحاضة قبل الفجر.
وقد يكون حكما طريقيا، مثل ما دل على وجوب السير للحج قبل الموسم.
وقد يكون حكما ظاهريا، وهو ما إذا اخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه، فان الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي لا يمكن أن يكون حكما واقعيا، بل لابد أن يكون حكما ظاهريا، على اختلاف مفاده، فقد يكون مفاده وضع الحكم الواقعي في موطن الشك بجعل ايجاب الاحتياط، وقد يكون مفاده رفع الحكم الواقعي بلسان الحل والترخيص، كقوله - عليه السلام "كل شئ لك حلال" أو بلسان الرفع، كقوله - صلى الله عليه وآله - " رفع عن أمتي تسعة أشياء " ومنها ما لا يعلمون.
وهذا الاختلاف ينشأ عن اختلاف ملاكات الأحكام الواقعية ومناطاتها، فقد يكون الملاك بمرتبة من الأهمية في نظر الشارع يقتضى جعل ايجاب الاحتياط في ظرف الشك تحرزا عن الوقوع في مخالفة الواقع.
وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية، فللشارع الترخيص في ارتكاب الشبهة منة على العباد وتوسعة عليهم، لأنه كان له التضييق عليهم بالزامهم على حفظ الملاكات بأي مرتبة كانت على أي وجه اتفق ولو بالاحتياط مطلقا في جميع موارد الشك، ولكن الملة السهلة السمحة اقتضت عدم ايجاب الاحتياط ورفع تأثير المقتضيات والملاكات عن اقتضائها ايجاب الاحتياط، ولازم ذلك: عدم المؤاخذة على الاقتحام في الشبهة لو صادف كونه مخالفا للواقع واتفق كون الشبهة من المحرمات الواقعية.
وبذلك تمتاز البراءة الشرعية عن البراءة العقلية، فان البراءة العقلية عبارة عن قبح المؤاخذة بلا بيان، فالحكم العقلي من أول الأمر يتوجه على المؤاخذة واستحقاق العقوبة، لأن استحقاق المؤاخذة والعقوبة من المدركات العقلية ليس من وظيفة الشارع وضعه ورفعه إلا بوضع ما يكون منشأ ذلك أو رفعه، كما أنه ليس من وظيفة العقل الحكم بجواز الاقتحام في الشبهة والترخيص في ارتكابها، لأن ذلك من وظيفة الشارع .
نعم: لازم حكم العقل بقبح المؤاخذة بلا بيان هو الترخيص في الارتكاب، كما أن لازم حكم الشارع بالترخيص هو عدم المؤاخذة في الاقتحام، فالبرائة الشرعية من أول الأمر تتوجه على جواز الارتكاب عكس البراءة العقلية. ...»[1]
وافاد (قدس سره) في المرفوع في غير مالايعلمون:
« ... وأما بالنسبة إلى الخمسة الاخر: من الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقونه، فنتيجة الرفع فيها هي تخصيص الأحكام الواقعية المترتبة على موضوعاتها المقدرة وجودها بما عدا عروض هذه الطوارئ.
بيان ذلك: هو أن مقتضى عموم أدلة الأحكام الواقعية عدم دخل الخطأ والنسيان وغير ذلك من الطوارئ والحالات في ترتبها على موضوعاتها، فان مقتضى عموم قوله تعالى "السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" وقوله تعالى "الزانية والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة" هو ثبوت القطع والجلد على من أكره على السرقة والزنا أو اضطر إليهما . ومقتضى الجمع بين تلك الأدلة وقوله - صلى الله عليه وآله - "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان الخ" هو اختصاص الأحكام بغير صورة عروض ذلك، ... الي ان قال
فيكون حاصل المعنى: هو "أن مقتضيات الأحكام الواقعية وإن كانت تقتضي ترتب الأحكام على موضوعاتها مطلقا من غير دخل للخطأ والنسيان في ذلك، إلا أن الشارع دفع تلك المقتضيات عن تأثيرها في ترتب الحكم على الموضوع الذي عرض عليه الخطأ والنسيان والإكراه ونحو ذلك "فلا حكم مع عروض هذه الحالات...»[2]
[1] . الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، تقرير البحث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، ج3،
ص338-341.
[2] . الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، تقرير البحث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، ج3،
ص346.