بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه بیست و هشتم
وحاصل ما افاده فی هذا المقام:
ان الملازمۀ بین حکم العقل وحکم الشرع جاریۀ، الا ان الملازمۀ المذکورۀ انما تکون فی جانب الوجود، لا فی طرف العدم توضیح ذلک:
انه لو استقل العقل بحکم، فحکم الشرع علی طبقه، فلو حکم بقبح الصدق الضار فیتبعه الشرع فی ذلک.
وأما اذا لم يحكم العقل بأمر اي لم يستقل بحكم، وذلك لطرو انتفاء ما احتمل دخله فيه، فمثلاً لم يحكم بقبح الصدق الضار لطرو انتفاء وصف الضار فيه، فلا يحكم الشرع لزوماً علي طبقه.
هذا ثم ان هذا التعبير عن كون الملازمة في جانب الوجود، لا في طرف العدم، ما افاده المحقق السيد مرتضي الفيروز آبادي في شرحه لكفاية الاصول، وتعبير المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في مقام الجواب عن الاشكال كون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في مقام الاثبات والاستكشاف لا في مقام الثبوت.
ونظره (قدس سره) الي وجود الوصف دخيل في العلم بالملاك، لا في اصل وجوده، ففي مثل الصدق الضار، ان وجود عنوان الضار دخيل في العلم بالملاك عند العقل، وهو العلم بانطباق عنوان الظلم الموجب للحكم بالقبح.
والعقل مادام يحصل له العلم بوجود هذا الوصف واحرزه يحكم بالقبح.
وهذا هو مقام الاثبات والاستكشاف
ولكن وجود وصف الضار لا يكون دخيلاً في اصل وجود الملاك، ومعني ذلك انه يمكن ان يكون الملاك في الواقع ونفس الأمر اعم مما احرزه العقل بحده او بوجوده، مثل ان يكون للملاك في الواقع حدود وأحوال لا يمكن للعقل الا احراز بعضها، او ان يكون مع الملاك الذي احرزه العقل ملاك اخر لا يتكفل العقل لإحرازها، ولكن يمكن للشرع احراز الملاك في الواقع بجميع حدوده وأحواله وما يؤثر في الحكم غيره اي غير ما ادركه العقل.
وهذا هو مقام الثبوت والواقع.
وعليه فإن لملاك حكم العقل وعبر عنه صاحب الكفاية بالمصالح والمفاسد الموجبة للتحسين والتقبيح العقليين، مقام اثبات، ومقام ثبوت وواقع.
اما مقام الثبوت فمقام الاحراز والانكشاف عند العقل، مقام الثبوت مقام الواقع، وحقيقة المصالح والمفاسد الموجبة للتحسين والتقبيح العقليين، وهذا المقام ربما لا يتكفل العقل لادراكه في جميع الموارد بحقيقته وواقعه، بل انما يدرك بعضه.
وعليه فلا ينطبق مقام الاثبات في الملاك المنكشف عند العقل لمقام الثبوت دائماً.
ويستلزمه عدم تمامية الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع دائماً في مقام الثبوت، لاختلاف حد الوقوف عليه بين العقل والشرع.
فإن العقل لا يمكنه استكشاف الملاك بجميع حدوده وأحواله وما معه من الملاك المؤثر غيره بمقدار يمكن للشرع استكشافه.
ففرق بين العقل والشرع في حد استكشاف الملاك، واستكشاف العقل محدود واستكشاف الشرع غير محدود واسع.
وقد عبر صاحب الكفاية عن مقام الاثبات ـ بالمعني الذي عرفت في الملاك ـ بمقام الفعلية.
وعبر عن مقام الثبوت بمقام الشأنية.
وانتج مما حققه في المقام بأنه يمكن تصوير تخلف حكم الشرع عن حكم العقل الا انه خص هذا التخلف بطرف العدم دون طرف الوجود، ومراده ان في المثال ربما انتفي حكم العقل بقبح الصدق الضار لما يراه دخل بعض الحالات العارضة الموجبة لانتفاء عنوان الاضرار، ولكن الشرع لا يري دخله في انتفاء الملاك، او يري بعد انتفاء الملاك المزبور وجود ملاك آخر يؤثر في الحكم غير ما يراه العقل، وبذلك يقع التخلف عن حكم العقل بالحكم ببقاء الحرمة المحرزة سابقاً عند الشك في زواله وانتفائه.
وظاهر هذه المقالة ان التعبد الاستصحابي احد اسباب انكشاف الواقعي ولو في الظاهر، او ان الوقوف التام للشرع بالملاكات الواقعية بحدودها وأبدالها انما يصحح الشك في بقاء الملاك الذي احرز العقل انتفائه.
وبعبارة اخري ـ وقربه صاحب الكفاية (قدس سره) بقوله:
وبالجملة:
ان حكم الشرع انما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعاً، اي شأناً، وهو نفس المصلحة والمفسدة بما هي هي، وإن شئت قلت: ان منشأ حكم الشرع المناطات الواقعية التي لو ادركه العقل لحكم علي طبقه.
ولكن حكمه ـ اي حكم الشرع ـ لا يتبع ما هو ملاك حكم العقل فعلاً، اي المناطات التي ادركه العقل، بحيث انه لو لم يدركها العقل ـ ذاك المناطات الواقعية ـ لم يحكم بها فعلاً.
وذلك:
لأن للعقل حكمان:
1 ـ حكم واقعي شأني.
وبتعبير آخر حكم واقعي تعليقي، وهو ما لو ادرك المناطات الواقعية لحكم بها.
2 ـ حكم واقعي فعلي. وهو حكمه بعد ادراك المناطات الواقعية فعلاً.
ومعني الفعلية هنا تمكنه الفعلي من ادراك المصالح والمفاسد الواقعية بقدرها.
كما ان معني الشأنية في حكمه، المناطات التي لو وقف عليها العقل لحكم به.
وأفاد صاحب الكفاية: بأن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع انما يكون بين الحكم الفعلي للعقل وبين حكم الشرعي.
وأما بالنسبة الي الحكم الشأني له ـ وهو علي ما عرفت، ما لو ادرك ما في الواقع ونفس الأمر من المناطات لحكم به، فلا ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
وبعبارة اخري:
ان الشرع انما يتبع في حكمه الحكم العقلي الفعلي اي ما ادرك من المناطات.
ولا يتبع الحكم العقلي الشأني التعليقي، اي ما لو ادركه لحكم به .
بل الشارع انما يعتمد في حكمه في هذا القسم من حكم العقل بما يدركه نفسه من المناطات الواقعية.
وهذه المناطات هي التي لو ادركها العقل لحكم به، ولكن لا يدركها ويدركها الشرع، فلا محالة انه بما ان حكمه دائماً تابعة للمناطات الواقعية لم يتبع الادراك العقلي الناقص عنده.
ووجه تبعية حكم الشرع لحكم العقل الفعلي وعدم تبعيته لحكمه الثاني:
هو:
عدم تطرق الاهمال والاجمال في حكمه الفعلي وتطرقه في حكمه الشأني حسب تعبير صاحب الكفاية (قدس سره)، قال في الكفاية:
«... وبالجملة: حكم الشرعي انما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعاً لا ما هو مناط حكمه فعلاً.
وموضوع حكمه كذلك ـ اي فعلاً ـ مما لا يتطرق اليه الاهمال والاجمال، مع تطرقه الي ما هو موضوع حكمه شأناً، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعاً».
وقد بيّن ذلك بقوله:
«فربّ خصوصية لها دخل في استقلاله ـ اي استقلال العقل في حكمه الفعلي الموضوع لقاعدة الملازمة ـ مع احتمال عدم دخله، فبدونها لا استقلال له بشئٍ قطعاً، مع احتمال بقاء ملاكه واقعاً، ومعه يحتمل بقاء حكم الشرع جداً، لدورانه معه وجوداً وعدماً.»
ونظره (قدس سره) في هذا المقام الي ما افاده الشيخ (قدس سره) فيما مر من كلامه من ان الاحكام العقلية كلها مفصلة مبيّنة من حيث المناط ولا اهمال فيها، ويدور امرها دائماً بين وجودها وعدمها، فلا يتطرق فيها الشك، ومعه فلا موضوع فيها للاستصحاب.
فأجاب عنه صاحب الكفاية (قدس سره):
بأن الاهمال والاجمال لا يتطرق في الاحكام العقلية الفعلية، اي المناطات التي ادركها العقل.
ولكن في الاحكام العقلية الشأنية يمكن تصوير تطرق الاهمال والاجمال.
ووجه عدم تطرق الاهمال والاجمال في حكمه الفعلي:
لأن العقل لا يستقل بحكم لا يعلم موضوعه، بل يلزم ان يكون موضوع حكمه مبين مفصل بجميع حدوده وقيوده، فلو ادرك المناط و رأي الموضوع واجداً له بتمام جهاته من دون اي نقيصة حكم به كما لو انه رأي ان الصدق بما انه ضار واجد لملاك القبح وكان الاضرار عنده محرزاً بجميع خصوصياته.
وفي هذا القسم من الادراك العقلي كان يتبعه حكم الشرع، ووجه تطرق الاهمال والاجمال في الحكم العقلي الشأني:
ان الحكم العقلي الشأني هو حكم التقديري، بمعني انه لو ادرك المصلحة او المفسدة الواقعيتين بأي حد لحكم علي طبقها، وأما اذا لم يدركهما فلا يحكم علي طبقها، لأن مع عدم ادرك المناطات الواقعية بحدها لا يحرز عنده الموضوع الحامل للملاك قهراً، ومع عدم احراز الموضوع بحده لا يتمكن من الحكم، ضرورة ان حكمه في المقام تابع لاحراز الموضوع ومعني احراز الموضوع احراز حامليته للملاك، وهو فرع ادراك الملاك، اذ لولا ادراكه فلا يمكن احراز ما هو حامل له من الموضوع.
وهذا هو معني تطرق الاهمال والاجمال في الحكم العقلي الشأني، وهذه هي نقطة وجدان الشك المقتضي لتحقق موضوع الاستصحاب في الاحكام الشرعية التي يكون مستندها الحكم العقلي.
هذا ما افاده المحقق صاحب الكفاية في الكفاية، ومثله ما عن حاشيته علي الرسائل، ووافقه المحقق النائيني والمحقق العراقي قدس الله اسرارهم في الجملة.